الخميس، 4 فبراير 2010

الربوة العالية.. و"الفانوس" المضيء

كان يعلن عن ديوان سعادنة علي غنيم
لأستقبال الأضياف والغرباء


رغم أن المبني والمنشأة المعمارية عموما والتي تمثلت في المعبد والساحة ومخازن الغلال وقلاع الحرب هي من منشآت المجتمع الحضري الزراعي بمصر المحروسة بالدرجة الأولي إلا أنها دخلت ثقافة القبائل العربية الموروثة بشكل حاشد ومتزايد
وترتفع أهمية هذا الاتجاه والتحول في مشاهدات ورصد التغييرات السلوكية فيما يختص بمنشأة الإقامة ومعمار السكن الأسري للقبائل الوافدة عموما فالعرب كانوا لا يجدون بديلا جاذبا ومنطقيا يمنعهم من طغيان العادة المتوارثة في سكني الخيمة التي ربطوا حياتهم تاريخيا علي خصوصياتها وإمكانياتها وقد وصل الأمر مع بعض أفراد القبائل التي زاحمها العمران الزاحف إلي إعتبار الإقامة من غيرها من المباني المنشأة من الحجر والحصي والطوب وغيره عيباً وعاراً ترتد معه تقاليد القبيلة إلي الخلف فالخيمة كانت رمزاً للصمود مع البيئة الأصل .
- إلا أن هذا الفكر القديم تقهقر تماماً مع إندماج الأروقة العربية بثقافتها وإضطرار الفكر البيئي إلي الأخذ بالأساليب الحضارية للعيش وإختيار مفردات حضارية تخدم فكرة ورمز التماسك الأسري القبلي وتحشد أسبابه لجمع العصبيات وتقوية وحدات الفروع والبطون والأنساب .
- لذلك أهتم العرب عموماً في كافة أماكن النزول الحضارية والكروية بديوان أو –نزل- الأسرة المعادل لخيمة رئيس القبيلة القديمة وأصبح بناء الديوان من الوجاهة الإجتماعية أيضا وكان الديوان في معظم منشأته يتكون من مكان فسيح ومتسع يكفي لأستقبال الأسرة "القبيلة" وضيوفهم كما تعددت حجراته حسب إمكانيات كل جماعة وعائلة وكانت تلحق به تجهيزات المعيشة من حمامات وأماكن للإستراحه والنوم ماكان ذلك في الأمكان
- شيخ العرب علي غنيم الكبير لم يشذ عن هذه الإتجاهات الجديدة لكنه دعمها بشدة وسمح له ثرائه الواسع ببناء ديوان حديث حشد له طائفة من البنائين والنجارين و"المبيضين"المهرة وكانت شهرة نزل أو ديوان علي غنيم كبيرة ومعروفة .
- فكر الديوان ورمزه يتكرر في قمن العروس لدي عرب "فزاره" أصحاب التاريخ الضارب في الإروقة العربية وأيضا عرب الشرفاء والضعفاء بكفر أبجيج القرية المجاورة
- ويعود بناء هذا الديوان إلي تاريخ يقارب بدايات القرن الثامن عشر ذاته – فقد تأكدت الروايات علي علاقة الزعيم أحمد عرابي بعاهله الكبير علي غنيم وقد صادف وفود عرابي لأعمال كوبري قشيشة وهو في رتبة "القائمقام" التي نالها عام 1860 وسرح بعدها من الجيش للأعمال المدنية بشكل مؤقت ومن المؤكد أن الديوان كان قد تم بنائه قبل ذلك بفترة كبيرة .
- وقد أختار شيخ العرب علي غنيم ربوة عالية علي أرض قريته المتاخمة لقمن العروس لبناء ديوانه المتسع الفسيح .
- أما منشآت الديوان فتبتدرها
ساحة فسيحة متسعة لظروف المناسبات المتكررة وإمتصاص زحام مواعيد العرب ولإستخدامها كإمتداد طبيعي لتكدس الزوار في مناسبات العزاء والأفراح كما يتقدم الديوان واجهة متسعة بعرض المبني ذاته تقوم عليها مجموعة من الأعمدة الخشبية الدقيقة تصلها عقود من الخشب المسكي الذي تشكل علي هيئة زخارف هادئة ومتكررة في رصانة حفظة متانتها طوال هذه الفترة تكون "فراندة" واسعة تكفي لجماعة ليست بالقليلة .
- أما مبني الديوان ذاته فيقود مدخله إلي صالة متسعة تلي "الفراندة " مباشرة وعلي الأجناب من اليمين واليسار غرفتان كبيرتان للإستقبال – بعدها تتكرر غرف المبني- ومكان الخدمة والحمامات .
- وقد عمد القدماء عموما إلي فرش وتجهيز الدواوين "بالدكك" الطويلة والممتدة والمفروشة بالكليم ومساند من الحشي المتماسك الذي يقاوم الأستخدام لأكبر فترة ممكنة – وقد روعي في الديوان أرتفاع حوائطه ألي الأمطار الخمسة والأمتداد نوافذه إلي أعلا لتحقيق أكبر قدر من الإضاءه والتهوية أما حوائطه فهي من الطوب الأحمر والحجر ويقارب عرضها المتر الكامل 0
- الديوان في فكر قبائل السعادنة شأنهم شأن قبائل العرب لم ينسي أداب وتقاليد خيمة رئيس القبيل- أنه ملتقي المناسبات ومكان موائد الكرم وأستقبال الضيوف والإحتفاء بالغرباء – لذلك اختار شيخ العرب علي غنيم مؤسس القرية لبنائه أعلا مكان علي أرضها وكان يعرف بأسم "فوق الكوم" ووضع أمامه فانوساً كبيراً تبدو إضاءته واضحة وسط دهمت ليل – ليرشد الزوار والسائلين عموماً ويمدوهم بالدفىء والمأوي 0
- وقد سقف الديوان بالعروق التي تستكين علي كمر الخشب في بعض أجنابه للسماح بأستمرار الأتساع كما أعتني صناعي أبوابه وشبابيكه بالأتساع ودقت التنفيذ فهو الواجهة المعمارية لوجاهة الأسرة الأجتماعية هكذا شاءت ثقافتهم 0
- وشهد بناء الديوان تنافس أبناء علي غنيم وبني عمومتهم بشكل حافل ويؤكد كبار السن في الأسرة حاليا أن عشرات من المشهود لهم بالصلاح والتقوي كانوا يسرون علي الأستمرار في البناء – لعلمهم أنه سيكون نادي للضيوف والغرباء والأسرة وأبناء العمومة من كل مكان 0.
- كانت ظروف فيضان النيل تحدث غرقا وقتها موسميا يفرض البناء في الأماكن العالية عموما – كما كان الفيضان يقطع الأتصال والحركة لفترة ليست بالقليل حتي إنحسار النهر لذلك أعتمدت حركة الأتصال والزوار علي المراكب الشراعية والقوارب – وكان الضيوف والغراباء يقصدون دواوين العائلات – وكان العرب يسمون ديوانهم "بالنزل أي مكان النزول للقادرين – وكان ضيافة وقت الفيضان إنقاذا للحياة الإجتماعية والإقتصادية من الشلل والإنقطاع 0
- وحفل "نزل السعادنة" بإستقبال القادمين بالمراكب كما حفل بإستقبال القادمين بعد إنحسار النهر – فقد كان الفانوس والكوم العالي هو نداء الكرم وحسن الإستقبال بشكل دائم ومتواصل .
- وقد أصطنعت فروع العائلة نظاما لإستقبال 0
- النزل يقوم علي توزيع المسئوليات اليومية لضيافة علي البيوتات في العائلة فكانوا يقسمون مسئولية الضيافة في إطار برنامج دقيق وحازم – وكان الفانوس المضىء هو المرشد والهادي علي ربوته العالية 0
- وهذا الديوان هو الذي إستخدمه عاهل بني غنيم الكبير علي غنيم في جمع شمل قبيلته وقضاء مصالح أسرته كما أستخدمه ولده خليفة علي غنيم في أدارة شئون سعادنة العرب في مصر المحروسة – كما أستضاف أيضا كثيرا من عمال ومنفذي كبري قشيشة تحت وأشراف أحمد عرابي الذي كان له قصص مشهورة يرويها أحفاد علي غنيم ولا يملون تكرار شرف روايتها 0

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق